ان مفهوم الفساد مفهوم متحرك متغير بتغير الحضارات وتطور الشعوب([1])، وقد تكون إتفاقية الأمم المتحدة
لمكافحة الفساد أفضل تعبير عن المفهوم الذي تتلاقى حوله الأمم في عالمنا المعاصر،
وفي الوقت نفسه أبلغ تعبير عن مشكلة تعريف الفساد، فالإتفاقية إختارت أن لا تعرف الفساد تعريفاً فلسفياً، بل إنصرفت الى تعريفه من خلال الإشارة
الى الحالات التي يترجم فيها الى ممارسات فعلية على أرض الواقع، ومن ثم قامت بتجريم
هذه الممارسات([2]).
وإتفاقية
الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لا تحتوي تعريفاً شاملاً للفساد، لكنها تعتمد توصيفاً
خاصاً للأعمال الجرمية التي تعتبر سلوكاً فاسداً في الوقت الحاضر تاركة للدول إمكانية معالجة أشكال مختلفة من الفساد قد تنشأ مستقبلاً على أساس أن مفهوم
الفساد فيه من المرونة ما يجعله قابلاً للتكيف بين مجتمع واخر([3]).
وما دامت الإتفاقية تمت صياغتها لكي يتم توظيفها وتكون فاعلة في بيئة عالمية، وبسبب
الصعوبة الناتجة عن تبني تعريف قانوني جازم، فالإتفاقية تبنت المنهج الوصفي، الذي يغطي أشكال متنوعة من الفساد الموجودة
حالياً. والإتفاقية، على أية حال، تركت للدول القدرة للتعامل مع أشكال أخرى للفساد قد
تظهر مستقبلاً. ان عدم تعريف الفساد يعكس الحاجة الى جعل هذه الإتفاقية مرنة ومحل قبول لدى الجميع. فالإتفاقية عرفت وجرمت مجموعة من المفاهيم كالرشوة، غسل الأموال.. والتي هي في
الحقيقة تعريف واقعي (de-facto) ([4]).
ان نهج تعريف أفعال معينة للفساد بدلاً من
محاولة تعريف ظاهرة الفساد هي بسبب واقع أن أية محاولة لإيجاد تعريف جامع للفساد ويكون مقبولاً لدى جميع الدول تكون مهمة مستحيلة،
ولذلك فان تبني المنهج الوصفي أي وصف أشكال الفساد، بحيث يغطي أشكالاً متنوعة من
الفساد يكون بديلاً مقبولاً قابلاً للتطبيق([5]).
ولإبداء
وجهة نظرنا بشأن مفهوم الفساد، إبتداء نتساءل ؟
ما هي القيمة التي نضيفها بتحديدنا لمفهوم
الفساد ؟
نرى إن من الضروري تحديد مفهوم الفساد قبل الخوض في غماره، فالمؤلفون والباحثون إما يبتدعون تعريفاً من عندهم، أو يذكرون التعريفات المتاحة في أدبيات
القانون والإقتصاد والسياسة... لأنه لا يمكن أن تبني حججك الأكاديمية إذا لم يكن
واضحاً حول ما تكتب بشأنه. ويقتضي الإتفاق في معظم الدراسات الأكاديمية على تحديد
معنى المصطلحات المستخدمة ومضمونها حتى ينحصر الجدل في إطاره الموضوعي([6]).
إضافة
لما سبق، من الأهمية بمكان التمييز بين الفساد والأنشطة غير القانونية الأخرى لأن
عوامل الفساد وسياسات مكافحة الفساد عادة أو يمكن أن تكون متميزة تماماً وكلياً عن
عوامل وسياسات مكافحة الأنشطة غير القانونية الأخرى([7]).
والقيمة تكمن في أن هذا التحديد يخولنا الإنطلاق
من أرضية عامة وبناء أساس لمعايير وقواعد عامة، وفهم وإستيعاب الضعف في تعريف
الفساد في التسعينيات من القرن الماضي هو أن الفساد ليس بالضرورة إستغلال للسلطة العامة، بما أن مفهوم الفساد إستمر في التطور، وتغيرت
التعريفات وأعيد صياغتها لتؤكد على إستغلال
الثقة، وهذا يشمل العام، والخاص، والقطاعات غير الحكومية([8]).
يتضح لنا من كل ما سبق، أن للفساد مفهوماً
واسعاً لا يمكن أن يحويه تعريف مانع وجامع له، وإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة
الفساد والتي تعد الآن أداة مكافحة الفساد الأكثر أهمية مع نطاقها الواسع في
التطبيق، أخذت منهجاً بحيث أن تعريفاً شاملاً للفساد لا هو مهم ولا هو عملي ([9]).
ووجدنا بأن إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة
الفساد قد إتجهت الى حصر أنشطة وأفعال محددة لتصنيفها كجريمة فساد دون إعتماد
تعريف قانوني محدد للفساد، ولتحقيق أهداف هذه الدراسة رأينا الأخذ بالنهج الذي
سارت عليه الإتفاقية ونقول: يشمل الفساد:
رشو الموظفين العموميين الوطنيين، ورشو الموظفين
العموميين الأجانب وموظفي المؤسسات الدولية العمومية، وإختلاس الممتلكات أو تبديدها أو تسريبها بشكل أو بآخر
من قبل موظف عمومي، والمتاجرة بالنفوذ، وإساءة إستغلال الوظائف، والإثراء غير المشروع، والرشوة في القطاع الخاص، وإختلاس
الممتلكات في القطاع الخاص، وغسل العائدات الإجرامية، وإخفاء الممتلكات المتأتية من أي من الأفعال
المُجَرَمَة، إعاقة سير العدالة، والمشاركة والشروع في فعل مُجَرَم وفقاً لهذه الإتفاقية.
([1])
على صعيد التشريعات الجزائية الوطنية، ورغم الإستخدام
الشائع لعبارة الفساد، فإنها ما زالت خالية من تعريف قانوني للفساد كجريمة تعاقب
عليها القوانين الجزائية، كما تخلو القوانين من قسم يضم طائفة من الجرائم التي
يمكن تسميتها بجرائم الفساد، غير أن القوانين الجزائية قدمت تعريفات للجرائم التي توصف
اليوم بجرائم الفساد وفقا للمواثيق الدولية والإقليمية. يُنظر: د.صلاح الدين فهمي
محمود، الفساد الإداري كمعوق لعمليــــات التنمية الإجتماعية والإقتصـــادية، دار
النشر بالمركز العربي للدراسـات الأمنية والتدرـب، الرياض، 1994، ص44.
وفيما يتعلق بمنهج التشريعات الوطنية المتعلقة
بمكافحة الفساد في معالجة تعريف الفساد،
تَبَيَنَ لنا بأن بعض التشريعات قد إكتفت بتحديد الأفعال التي تُمثل
جرائم فساد دون إعطاء تعريف منهجي وذاتي للفساد، وذلك
مثل القانون الجزائري [ المادة (12) من القانون رقم (6-1) لسنة (2006) الخاص بالوقاية
من الفساد ومكافحته ] والقانون الأردني [المادة (5) من قانون هيئة مكافحة الفساد
رقم (62) لسنة (2006) ]، أما التشريع اليمني فقد لجأ الى المزج بين المنهجين حيث
وضع تعريفاً للفساد في المادة (2) من القانون رقم (39) لسنة (2006) والتي عرفته
بأنه "إستغلال الوظيفة العامة للحصول
على مصالح خاصة سواء كان ذلك بمخالفة القانون أو استغلاله أو باستغلال الصلاحيات
الممنوحة"، ثم نص في المادة (30) من القانون
ذاته على الأفعال التي تُعتبر فساداً.